الأحد، ٣١ يوليو ٢٠١١

علامات التخلف

 
الشأن الفنزويلي لا يهمنا كثيرا في منطقتنا المغاربية والعربية التي تشهد متغيرات عميقة في هذه الفترة.
غير أن الظاهرة التي تستحق الاهتمام هي تلك المتمثلة في مظاهر التخلف والديكتاتورية. فقد عرف الرئيس هيقو شافاز بمواقفه التصعيدية، وبات الرجل الذي يشتهر بالمواقف التي تبدو غريبة أو غير مسايرة لواقع الأمور، وعرف بتأييده المرضي لكل من يخالف أمريكا والعالم الغربي عامةّ،فهو صديق للقذافي، وهو صديق لأحمدي نجاد وهو صديق لبشار الأسد وحزب الله لأنهما «زعماء الممانعة»، وغير أولئك من الذين يحترفون التطرف.
ليس هذا موضوعنا بل موضوعنا هو كيف يتصرف الديكتاتور.
ومنذ كان شافاز في الرابعة والأربعين وهو يرأس مقاليد الحكم في بلاده التي يحكمها منذ 1999 ، وينوى الترشح للمرة الثالثة في سنة 2012 لولاية ثالثة، ولم لا غدا ولاية رابعة وربما خامسة والشهية تفتح بالطعام.
لكن ليس هذا المهم بل الأهم هو أن شافاز يعاني من مرض سرطان القولون غالبا، وأجريت عليه عملية جراحية في 10 جوان الماضي لاستئصال ورم خبيث قال عنه هو نفسه إنه في حجم كرة البيسبول، وذلك في كوبا.
وهذا بدوره يطرح مجموعة أسئلة نتوقف عند اثنين منها.
أولهما ، كيف يمكن لبلد ثري بريع بترولي ضخم أن لا يكون متوفرا على تجهيزات طبية عادية وأطباء ليسوا على اختصاص شديد الدقة لاستئصال ورم سرطاني خبيث.
إن تلك نقيصة كبرى ولا شك.
ثانيهما ، هل تعد كوبا بالذات مرجعا طبيا يتم اللجوء إليه.
من هنا تتضح طبيعة النظام ، وهو على شاكلة كل الأنظمة العربية تقريبا قبل أن تهزها الثورة وتقضي على نوعيتها الديكتاتورية المتسلطة.
وفي فينزويلا تجري انتخابات دورية رئاسية وبرلمانية، ولكنها معروفة النتائج بصورة مسبقة.
ومن هنا يأتي مكمن الداء، فالرئيس هوغو شافاز يمرض ويشفى إن شفي ، ويسافر ويبقى الأسابيع وراء الأسابيع في الخارج، دون أن يصارح شعبه بما يشكو منه من سقم، وإذا ما كان ذلك المرض يجعله على قدرة على ممارسة مهامه وحكمه.
ففي البلدان الديمقراطية يتم تتبع صحة رئيس الدولة بكل تفاصيلها، بقصد معرفة مدى قدرته على مواصلة أعماله في منصبه العالي، الذي يؤثر على البلاد بقراراته.
ولقد أقدم الرئيس شافاز على السفر مجددا إلى كوبا لتقضية فترة غير معروفة من حيث الطول لتلقي العلاج، بيد من سيكون القرار وهل يصح فعلا تفويض صلاحيات رئيس الدولة لمدة طويلة نسبيا ، وما هي كيفية مواجهة القرارات المهمة.
نجد هنا كل مقومات الدولة الإستبدادية، حيث إن الرئيس يقرر كل شيء حتى ترك القرار الأهم في الدولة ، بيد رجال لا يعرف مدى قدرتهم، ومهما يكن من أمر لا يعرف مدى كفاءتهم لتسيير شؤون الدولة تحت مسؤولية رئيس غائب لفترة غير معروفة ولا محددة، وبمرض غير معروف إن كان سيطول علاجه، وما إذا كان سيؤدي لإعاقة وقتية أو دائمة وربما حتى الوفاة.
وفي دولة الإطلاق كما كان يقول ابن أبي الضياف لا تجد اعتبارا للشعب وللمواطنين ، فيتقرر مصيرهم لا بأيديهم كما هو المفروض بل بين أيد قليلة وربما ليست هي في حد ذاتها في موقع اتخاذ القرار إن كان بيدها قرار.
ولذلك فإن الذين يبدو لهم أن شيفاز هو بطل منقذ، وجب عليهم إعادة تقييم مواقفهم، على أساس أن أي شخص له حق المشاركة في اتخاذ القرار ، وأنه لا أقل من أن يعرف بصحة المسؤول الأول في البلاد لما في ذلك من مساس به شخصيا ومؤسساتيا وحتى عائليا، ليس شيفاز ذلك الملاك بل هو ديكتاتور مثل غيره، ولذلك فإن التعامل معه لا بد أن يضع في الاعتبار تلك العوامل.

المدير العام رئيس تحرير صحيفة المحرر التونسية
بقلم عبداللطيف الفراتي



  • Home
  • الخميس، ٧ يوليو ٢٠١١

    ماريو فارغاس يوسا: لولا كتاباتي الصحافية لما كتبت نصف رواياتي!

    ماريو فارغاس يوسا


    أجرى ملحق الكتب في صحيفة "لونوفيل أوبسرفاتور" الفرنسية حوارا مع الكاتب البيروفي الكبير ماريو فارغاس يوسّا، في الثلاثين من ايلول ( سبتمبر) 2010، أي قبل سبعة أيام من فوزه بجائزة نوبل للآداب، هذه ترجمته .
     ثمان وعشرون سنة بعد الكولمبي غارسيا ماركيز - عدوّه اللدود -، وعشرون سنة بعد المكسيكي أوكتافيو باث، سيلتحق صاحب "المدينة والكلاب" بهذين العلمين الكبيرين في الأدب الأمريكي اللاتيني. إنه راء مثلهما، تشكل رواياته مرآة وهاجة لقارة لطالما شهدت تمزقات وانفجارات ومفارقات، سعى فارغاس يوسا في رواياته إلى معانقة قدر أمريكا اللاتينية بأوهامها وأحلامها المجهضة وأساطيرها التي سحقتها أحذية الديكتاتوريين .
     يتيم الثورات المستحيلة، عملاق الكتابة، عامل بلا كلال ـ يقارن بفكتورهوغو ـ لم يتخل فارغاس يوسا عن الالتزام، في البداية كان في صف حكومة فيديل كاسترو، ثم يمّم شطره، شيئا فشيئا، نحو اليمين الليبرالي، ومنذ ذلك الحين حمل حملة شعواء، في الصحافة، على الحكومات التقدمية في أمريكا اللاتينية .
     ولد في آذار ( مارس) 1936، ودرس في جامعة ليما، ثم عمل مصححا وناقدا أدبيا وسينمائيا، ناضل في صفوف الشبيبة الشيوعية قبل أن ينفصل عنها بسبب توجهاتها الستالينية، ثم طار إلى مدريد التي أنجز فيها أطروحته ثم إلى باريس أواخر الخمسينيات .
     حاصل على أربعين دكتوراه، يعيش اليوم بين باريس ولندن وبرشلونة. يواصل فارغاس يوسا العمل بلا انقطاع، وسيصدر له عمل جديد في اسبانيا "حلم السلتي "، وهو سيرة روائية عن روجيه كاسمان ( 1864 ـ 1916)، وهو شاعر وثوري إيرلندي وتاجر أسلحة ودبلوماسي بريطاني، فضح فظاعات الاستعمار في إفريقيا والبيرو .
     يتبدى فارغاس يوسا، من كتاب لآخر، أحد أعلام الأدب العالمي المبرزين، ولن تضيف جائزة نوبل المتأخرة شيئا لهذا الرجل الذي طبقت شهرته الآفاق منذ زمن بعيد .
     

     الحوار


     * أقامت لكم باريس معرضا، وهي المدينة التي كنتم في مرحلة المراهقة تحلمون بالعيش فيها. ما الذكريات التي تحتفظون بها أثناء مجيئكم عام 1959، وكان لكم من العمر ثلاثة وعشرون عاما؟
     - في البدء كنت أستاذا للغة الإسبانية في مدرسة "بيرليتز"، ثم أصبحت صحافيا في وكالة "فرانس برس"، وفيما بعد في راديو وتلفزيون فرنسا، ويمكن القول أنني بفضل الجنرال دوغول وجدت في فرنسا هذا العمل الجيد بالنسبة لكاتب واعد، هذا المشروع الكبير الذي أنشأه دوغول ليساهم في إشعاع فرنسا، سمح بتطوير البرامج على الموجات القصيرة الموجهة إلى إسبانيا وأمريكا اللاتينية، والتي لم تكن موجودة من قبل. قام راديو فرنسا الدولي، في تلك الفترة، بتوظيف صحافيين ناطقين بالإسبانية، وكنت من بينهم. كنت أشتغل من العاشرة ليلا إلى الرابعة صباحا، بيد أنني كنت أنفق كل ساعات يومي في القراءة والكتابة، كنت محظوظا للغاية لكون باريس ما زالت مدينة منفتحة، كان المرء يحس أنه في مدينته، كانت لحظة مؤثرة: حرب الجزائر، بداية الجمهورية الخامسة، وكانت الحياة الثقافية غنية جدا: بيكيت، يونسكو، فيلار، بارو، بوليز، الرواية الجديدة،. لما وصلت ظهر شريط غودار "اللهاث من التعب"، وكانت"الحياة السياسية رائعة، أتذكر مناظرة ـ إنها من أروع المناظرات التي رأيتها في حياتي ـ بين ميشيل دوبري الوزير الأول وقتئذ، وبيير منديس فرانس. كان الأدب الفرنسي يسحرني، حين كنت طفلا بدأت قراءة جول فيرن وألكسندر دوما وفيكتور هوغو بالفرنسية. في ذلك الزمن كان تأثير فرنسا في أمريكا اللاتينية هائلا، وحين ولجت جامعة سان ماركوس في ليما، كان السجال بين سارتر وكامو حدثا، وكنت أتابعه في ليما وأنا أقرأ مجلة "الأزمنة الحديثة"، وبفضل عملي الأول في راديو الجامعة الأمريكية في ليما استطعت أن أشترك في "الأزمنة الحديثة" و "الآداب الجديدة" لموريس نادو، ولم أكن الوحيد، فجميع الأمريكيين اللاتينيين الذين كانوا يحلمون بأن يصيروا كتابا أو رسامين أو موسيقيين، يرغبون في أن يعيشوا تجربة باريس. في باريس اكتشفت أني كنت أمريكيا لاتينيا، أما من قبل فلم أكن أشعر سوى بأني بيروفي يعدم إحساس الانتماء لعائلة كبيرة. في باريس اكتشفت أدب أمريكا اللاتينية، وعرفت كتابا نحو خوليو كورتثار، كارلوس فوينتيس، أوكتافيو باث أو ميغيل أنخيل أستورياس. كان موريس نادو قد خصص عددا ممتازا من مجلته "الآداب الجديدة" لأدبنا مع مقدمة لباث بعنوان "باريس عاصمة لأدب أمريكا اللاتينية". كان اعتراف باريس الثقافي، في ذلك الزمن، ضروريا. حين جاء إليها بورخيس في العام 1963، كان رهط قليل من الناس يقرأه في أمريكا اللاتينية، ولم يعرف في أمريكا اللاتينية بوصفه كاتبا كبيرا إلا بعد أن احتضنته باريس، ولم يكن من قبل إلا كاتب سراديب.

     * في البداية تأثرتم بسارتر، ثم أصبحتم من أتباع كامو. هل على الكاتب أن يكون ملتزما؟
     -  كانت أفكار سارتر، وقتئذ، ذات وقع ساحر على كاتب من العالم الثالث: إن الكلمات أفعال، فبفضلها يمكن تغيير التاريخ ومقاومة الظلم، انكفأت إلى كامو بعد أن قرأت شهادات المنشقين عن الاتحاد السوفييتي وبلدان أوروبا الشرقية، إن فكرته المركزية ـ لا يمكن فصل الأخلاق عن السياسة، وإلا سيحصل العنف و تقع أعمال بربرية ـ كانت جريئة للغاية. إن قول كلمة "لا "ينم على الشجاعة، ينبغي ألا ننسى الأخلاق في فترة هيمنت فيها الجاذبية الماركسية التي تخدم الواقعية الثورية .

     * كتبتم بأن الأدب كان دائما فعلا ثوريا.
     -  إن الأدب فعل للتمرد حتى وإن كان الكاتب غير واع به. ليس بالضرورة تمردا سياسيا، بل فعل للتمرد ضد الحياة والتاريخ، فإذا ما كنتم تبتكرون عوالم فلأن العالم كما هو لا يحظى برضاكم. ثمة عنصر ثوري في التخييل، يبعث رغبات وميولات لأشياء تفتقدونها في العالم الواقعي. فعندما تنتهون من قراءة وتجربة كتاب عظيم، فإنكم تتأثرون بجميع عيوب وشوائب العالم الواقعي. إن الرواية هي مصدر كل نقد للعالم والمجتمع، وإلا لماذا أقامت كل الأنظمة المستبدة في التاريخ أنظمة رقابة على الأدب؟ لأنها تهابه. والحق بجانبها، فمن دون الكتب الجيدة التي قرأت، كانت نظرتي للعالم ستكون مختزلة جدا .

     * لما كنتم مرشحين للانتخابات البيروفية عام 1990، قلتم: "موهبة الكاتب لا تتطابق والسياسة والغزو وممارسة السلطة". كانت مفارقة. أتضعون الأدب دائما في مرتبة أعلى من السياسة؟
     -  الأدب موهبتي، لم أرغب البتة في أن أكون رجل سياسة محترفاً. أبدا. أصبحت مرشحا بسبب ظروف لم تكن متوقعة، وقمت بهذا بوضوح أكبر، وأنا أدرك أنه سيكون، خلال فترة، تضحية بموهبتي. حصل عنف كثير وسقط موتى كثيرون أثناء الحملة. كان ذلك رهيبا. وبعد هزيمتي أمام فوجيموري استطعت استرجاع حريتي وممارسة شغفي: الكتابة ثم الكتابة .

     * هل تواصلون الالتزام السياسي عبر الصحافة؟
     - للكاتب مسؤولية باعتباره مواطنا، إذ عليه أن ينخرط في المشاركة. ليس الحلّ من الناحية الأخلاقية أن"يقال: إن السياسة قذرة، إذن أنزوي بين كتبي. لا، إنه لموقف صلف وطائش، ولهذا السبب أتعاطى الصحافة. إنها تساعدني كثيرا لكي أصبح على تماس بالتاريخ يوما بعد يوم. وفوق كل شيء أحب الأدب، لكن ليس على شاكلة الكاتب الذي ينعزل في برجه العاجي، مقطوعا عن بقية العالم. فلولا الصحافة وأعمدتي وتقاريري فيها، ما كنت أستطيع كتابة نصف رواياتي. على المرء ألا يكون ساذجا فيعتقد أن الكاتب وهب نظرة إلهية .لا، إن الكاتب يغلط ويرتكب أخطاء، لكن هناك مجالا ً يمكن فيه للكاتب أن يأتي كذلك بشيء جديد .
     إنه لأمر فظيع أن نرى السياسات تخرب اللغة الحية التي تصبح في استعمالاتها مناطق مشتركة، لغة مدنسة، بينما بمقدور الكاتب أن يطهّر اللغة من كل التعابير الجامدة التي تفسد الفكر .

     * كنتم، لفترة معينة، شبيها بمداح لليبرالية الاقتصادية.
     -  أريد تدقيق العبارة، فإذا ما كنت ليبراليا فلأني أؤمن بالحرية السياسية، وليس بدوغمائية رجال الاقتصاد. إن الليبرالية مذهب مرن، وهو، عندي، يمثل، أولا، التسامح ـ أن تعترف بأن الأفكار التي تدافعون عنها تحتمل الخطأ ـ ويمثل فكرة التعايش في الحرية، أي المبدأ الذي يشكل قاعدة الديموقراطية، وبالخصوص مقاومة العنف، فكل نزعة وثوقية هي منبع للعنف، ويصدق هذا على قارة كأمريكا اللاتينية، حيث عادة العنف السياسي والأيديولوجي رهيبة. ومع ذلك وجب الاعتراف بأن الوضع بدأ يتحسن في السنين الأخيرة، باستثناء الديكتاتورية الكوبية الكارثية التي تهوي كل يوم، والحالة المأساوية جدا لحكم تشافيز في فنزويلا، وفي نيكاراغوا. وثمة حكومات في بلدان أخرى، يمينية ويسارية، تسوس، فعلا، بالديموقراطية . ففي التشيلي هناك حكومة يمينية تنأى بالديموقراطية عن كل شبهة، وفي الأوروغواي حكومة يسارية يترأسها أحد قدامى "التوبامارو"، لا يتهدد الديموقراطية فيها شيء. إنه لتقدم ملموس لأن اليسار واليمين لم يكونا ديموقراطيين، فاليمين يؤمن بالعسكر، واليسار بالثورة. ترتبط المشاكل الكبرى لأمريكا اللاتينية اليوم بالفساد المستفحل وبالعنف المرتبط بتجار المخدرات. في أمريكا الوسطى، في البيرو، في كولومبيا، تنتشر المخدرات في كل مكان، وتشكل سلطة اقتصادية خطيرة جدا، لا تستطيع الدولة معها أن تنافس دويلات المخدرات، فباستطاعة المخدرات أن تؤدي كالدولة أجورا عالية للموظفين والسياسيين. وطور تجار المخدرات خزائن ذكية حتى يستفيدوا من العولمة. يتواجدون في كل مكان ويمكنهم أن ينتقلوا ويغيروا إقاماتهم ويجزئوا "صناعتهم" إلى وحدات صغرى غير متمركزة. لقد جربت جميع الوسائل لمحاربتهم، إلا وسيلة إعفاء المخدرات من العقوبة. أعتقد أننا سنصل في يوم ما إلى اتفاق بين الدول المنتجة والدول المستهلكة من أجل إعفاء المخدرات من الجزاء إلى الحد الذي ينتفي معه الإجرام المتعلق بتجارة المخدرات. تنفق أموال طائلة على القمع، فلو أن هذه المبالغ كانت تستخدم في الوقاية والعلاج، لكانت أكثر فعالية بكثير .

     * بقيتم على صداقة مع جميع كتاب أمريكا اللاتينية الكبار، واليوم تكتبون مقدمة لـ "منتخبات من القصة القصيرة الأمريكية اللاتينية المعاصرة". ما الذي تغير بين جيلكم وجيل اليوم؟
     - كان القاسم المشترك بين الجيل الماضي ـ وهو كلام معاد ـ هو "الواقعية السحرية"، الفانتازيا، عالماً"من الخيال بعيداً كل البعد عن الحياة الواقعية. أما الجيل الجديد فيدشن عودة إلى الواقعية، بيد أنها واقعية تغتني بالاشتغال على الشكل. إن واقعيتهم ذات صلة ضعيفة بهذه النظرة الضيقة حبيسة الإشكالية الاجتماعية والسياسية بشكل يكاد يكون خاصا، التي ميزت كل الأدب الواقعي في الماضي. لقد كتبت دراسة عن غارسيا ماركيز، وأخرى عن أونيتي، ولي ولع كبير ببورخيس أحد كتاب عصرنا الأكثر أصالة. أحدث هذا الجيل كله ثورة في السرد باللغة الإسبانية، لقد غيّر، بشكل جذري، طريقة كتابة القصص، وعشنا هذه التجربة بوصفها حدثا ذا فورة عظيمة، وكان يعرونا إحساس بأن أمريكا اللاتينية كانت في طور التغيير لأن الأدب كان يتغير. كان الأمر يبدو ساذجا بعض الشيء، لكننا كنا نعتقد أن بمقدور الأدب أن يكون له تأثير إلى الحد الذي سيتغير معه الواقع الاجتماعي والسياسي. وفي لحظة ما اعتقدنا أن العالم يعرفنا من الناحية الأدبية، لم يكن الأدب الأمريكي اللاتيني موجودا من قبل، أو كان موجودا بوصفه ذا طابع غرائبي فقط .

     * في تشرين الثاني ( نوفمبر)، ستصدر باللغة الإسبانية روايتكم الجديدة "حلم السلتي" المكرسة للدبلوماسي والناشط الإيرلندي "روجي كاسمان".
     - لقد اكتشفته وأنا أقرأ سيرة لكونراد. إن روجي كاسمان هو أول إنسان تعرف إليه كونراد حين ذهب إلى الكونغو كقائد سفينة. كان كاسمان يعيش في الكونغو البلجيكية منذ ثمانية أعوام، وكان يعرف كل شيء. أصبحا صديقين خليلين، بل عاشا معا فترة معينة. إن روجي كاسمان هو من فتح بصيرة كونراد على الفظاعات التي ارتكبتها إدارة ليوبولد ملك بلجيكا. كان كاسمان إيرلنديا، لكن إيرلندا، في ذلك العهد، كانت تابعة للإمبراطورية البريطانية. كان، إذا، ديبلوماسيا بريطانيا في الكونغو، مثلما أصبح، في السر، انفصاليا إيرلنديا. وبالعكس، كان في ما مضى، نصيرا لبريطانيا وللأنغليكانية وللإمبريالية، حتى أنه كان يؤمن بأن الإستعمار هو أداة التحضر والتنصر. تغير بالكامل وهو يرى الواقع الرهيب في الكونغو، فأضحى مناضلا يقاوم الاستعمار، وأحصى، خلال سنوات، كل الفظائع المرتكبة في عين المكان، وصنع تقريره عن الكونغو شهرته، ليس في انكلترا فقط، بل في أوروبا أيضا. وبعثته الحكومة البريطانية أيضا إلى الأمازون بسبب ما شاع فيه من أخبار تقول إن جرائم ارتكبت في حق الهنود المقيمين في منطقة الكاوتشوك على ضفاف البوتومايو بالبيرو. ومكث بالأمازون زهاء عام في ظروف عصيبة، لم يتوقف فيها تهديد الرجال البيض له، كما أنجز تقريرا رائعا. إنه من بين أوائل الأوروبيين الذين كان لهم بالفعل وعي صريح بالاستعمار. لقد كتب بوضوح مقاوما الاستعمار والامبريالية، وهي كتابة تعدّ، في تلك الفترة، عملا ثوريا مِؤكدا، ثم أعدمه البريطانيون في العام 1916. لقد كان رجلا يسبق عصره بكثير، وهو يحمل، بشجاعة، لواء الدفاع عن الثقافات البدائية. فمن كان يهتم، وقتئذ، بالثقافات البدائية؟ نعم إن روجي كاسمان شخصية روائية حقيقية .

     * ما الكتب الثلاثة التي ستحملونها إلى جزيرة مهجورة ؟
     - "الكوميديا الإنسانية" و "الحرب والسلم" و "دون كيخوته" حتى لا أفقد لغتي احتمالا، وإلا فإني سأحمل معي "عوليس" لجويس، لأنها رواية لا تستنفد .



  • Home